سورة النجم - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النجم)


        


{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)}
وقوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى * وإبراهيم الذي وفى} حال أخرى مضادة للأولى يعذر فيها المتولي وهو الجهل المطلق فإن من علم الشيء علماً تاماً لا يؤمر بتعلمه، والذي جهله جهلاً مطلقاً وهو الغافل على الإطلاق كالنائم أيضاً لا يؤمر فقال: هذا المتولي هل علم الكل فجاز له التولي أولم يسمع شيئاً وما بلغه دعوة أصلاً فيعذر، ولا واحد من الأمرين بكائن فهو في التولي غير معذور، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: {بِمَا وفى} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المراد ما فيها لا بصفة كونه فيها، فكأنه تعالى يقول: أم لم ينبأ بالتوحيد والحشر وغير ذلك، وهذه أمور مذكورة في صحف موسى، مثال: يقول القائل لمن توضأ بغير الماء توضأ بما توضأ به النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فالكلام مع الكل لأن المشرك وأهل الكتاب نبأهم النبي صلى الله عليه وسلم بما في صحف موسى ثانيهما: أن المراد بما في الصحف مع كونه فيها، كما يقول القائل فيما ذكرنا من المثال توضأ بما في القربة لا بما في الجرة فيريد عين ذلك لا جنسه وعلى هذا فالكلام مع أهل الكتاب لأنهم الذين نبئوا به.
المسألة الثانية: صحف موسى وإبراهيم، هل جمعها لكونها صحفاً كثيرة أو لكونها مضافة إلى اثنين كما قال تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]؟ الظاهر أنها كثيرة، قال الله تعالى: {وَأَخَذَ الألواح} [الأعراف: 154] وقال تعالى: {وَأَلْقَى الألواح} [الأعراف: 150] وكل لوح صحيفة.
المسألة الثالثة: ما المراد بالذي فيها؟ نقول قوله تعالى: {أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى * وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 38، 39] وما بعده من الأمور المذكورة على قراءة من قرأ أن بالفتح وعلى قراءة من يكسر ويقول: {وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى} [النجم: 42] ففيه وجوه:
أحدها: هو ما ذكر بقوله: {أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى} وهو الظاهر، وإنما احتمل غيره، لأن صحف موسى وإبراهيم ليس فيها هذا فقط، وليس هذا معظم المقصود بخلاف قراءة الفتح، فإن فيها تكون جميع الأصول على ما بين ثانيها: هو أن الآخرة خير من الأولى يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ هذا لَفِى الصحف الأولى * صُحُفِ إبراهيم وموسى} [الأعلى: 18، 19] ثالثها: أصول الدين كلها مذكورة في الكتب بأسرها، ولم يخل الله كتاباً عنها، ولهذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] وليس المراد في الفروع، لأن فروع دينه مغايرة لفروع دينهم من غير شك.
المسألة الرابعة: قدم موسى هاهنا ولم يقل كما قال في {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى} [الأعلى: 1] فهل فيه فائدة؟ نقول: مثل هذا في كلام الفصحاء لا يطلب له فائدة، بل التقديم والتأخير سواء في كلامهم فيصح أن يقتصر على هذا الجواب، ويمكن أن يقال: إن الذكر هناك لمجرد الإخبار والإنذار وهاهنا المقصود بيان انتفاء الأعذار، فذكر هناك على ترتيب الوجود صحف إبراهيم قبل صحف موسى في الإنزال، وأما هاهنا فقد قلنا إن الكلام مع أهل الكتاب وهم اليهود فقدم كتابهم، وإن قلنا الخطاب عام فصحف موسى عليه السلام كانت كثيرة الوجود، فكأنه قيل لهم انظروا فيها تعلموا أن الرسالة حق، وأرسل من قبل موسى رسل والتوحيد صدق والحشر واقع فلما كانت صحف موسى عند اليهود كثيرة الوجود قدمها، وأما صحف إبراهيم فكانت بعيدة وكانت المواعظ التي فيها غير مشهورة فيما بينهم كصحف موسى فأخر ذكرها.
المسألة الخامسة: كثيراً ما ذكر الله موسى فأخر ذكره عليه السلام لأنه كان مبتلى في أكثر الأمر بمن حواليه وهم كانوا مشركين ومتهودين والمشركون كانوا يعظمون إبراهيم عليه السلام لكونه أباهم، وأما قوله تعالى: {وفى} ففيه وجهان:
أحدهما: أنه الوفاء الذي يذكر في العهود وعلى هذا فالتشديد للمبالغة يقال وفى ووفى كقطع وقطع وقتل وقتل، وهو ظاهر لأنه وفى بالنذر وأضجع ابنه للذبح، وورد في حقه: {قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} [الصافات: 105] وقال تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين} [الصافات: 106] وثانيهما: أنه من التوفية التي من الوفاء وهو التمام والتوفية الإتمام يقال وفاه أي أعطاه تاماً، وعلى هذا فهو من قوله: {وَإِذَا ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] وقيل: {وفى} أي أعطى حقوق الله في بدنه، وعلى هذا فهو على ضد من قال تعالى فيه: {وأعطى قَلِيلاً وأكدى} مدح إبراهيم ولم يصف موسى عليه السلام، نقول: أما بيان توفيته ففيه لطيفة وهي أنه لم يعهد عهداً إلا وفى به، وقال لأبيه: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي} [يوسف: 98] فاستغفر ووفى بالعهد ولم يغفر الله له، فعلم {أن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} وأن وزره لا تزره نفس أخرى، وأما مدح إبراهيم عليه السلام فلأنه كان متفقاً عليه بين اليهود والمشركين والمسلمين ولم ينكر أحد كونه وفياً، وموفياً، وربما كان المشركون يتوقفون في وصف موسى عليه السلام، ثم قال تعالى: {أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى} وقد تقدم تفسيره في سورة الملائكة، والذي يحسن بهذا الموضع مسائل:
الأولى: أنا بينا أن الظاهر أن المراد من قوله: {بِمَا فِي صُحُفِ موسى} هو ما بينه بقوله: {أَلاَّ تَزِرُ} فيكون هذا بدلاً عن ما وتقديره أم لم ينبأ بألا تزر وذكرنا هناك وجهين:
أحدهما: المراد أن الآخرة خير وأبقى وثانيهما: الأصول.
المسألة الثانية: {أَلاَّ تَزِرُ} أن خفيفة من الثقيلة كأنه قال: أنه لا تزر وتخفيف الثقيلة لازم وغير لازم جائز وغير جائز، فاللازم عندما يكون بعدها فعل أو حرف داخل على فعل، ولزم فيها التخفيف، لأنها مشبهة بالفعل في اللفظ والمعنى، والفعل لا يمكن إدخاله على فعل فأخرج عن شبه الفعل إلى صورة تكون حرفاً مختصاً بالفعل فتناسب الفعل فتدخل عليه.
المسألة الثالثة: إن قال قائل: الآية مذكورة لبيان أن وزر المسيء لا يحمل عنه وبهذا الكلام لا تحصل هذه الفائدة لأن الوازرة تكون مثقلة بوزرها فيعلم كل أحد أنها لا تحمل شيئاً ولو قال لا تحمل فارغة وزر أخرى كان أبلغ تقول ليس كما ظننت، وذلك لأن المراد من الوازرة هي التي يتوقع منها الوزر والحمل لا التي وزرت وحملت كما يقال: شقاني الحمل، وإن لم يكن عليه في الحال حمل، وإذا لم تزر تلك النفس التي يتوقع منها ذلك فكيف تتحمل وزر غيرها فتكون الفائدة كاملة.
وقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} تتمة بيان أحوال المكلف فإنه لما بين له أن سيئته لا يتحملها عنه أحد بين له أن حسنة الغير لا تجدي نفعاً ومن لم يعمل صالحاً لا ينال خيراً فيكمل بها ويظهر أن المسيء لا يجد بسبب حسنة الغير ثواباً ولا يتحمل عنه أحد عقاباً، وفيه أيضاً مسائل:
الأولى: {لَّيْسَ للإنسان} فيه وجهان:
أحدهما: أنه عام وهو الحق وقيل عليه بأن في الأخبار أن ما يأتي به القريب من الصدقة والصوم يصل إلى الميت والدعاء أيضاً نافع فللإنسان شيء لم يسمع فيه، وأيضاً قال الله تعالى: {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وهي فوق ما سعى، الجواب عنه أن الإنسان إن لم يسع في أن يكون له صدقة القريب بالإيمان لا يكون له صدقته فليس له إلا ما سعى، وأما الزيادة فنقول: الله تعالى لما وعد المحسن بالأمثال والعشرة وبالأضعاف المضاعفة فإذا أتى بحسنة راجياً أن يؤتيه الله ما يتفضل به فقد سعى في الأمثال، فإن قيل: أنتم إذن حملتم السعي على المبادرة إلى الشيء، يقال: سعى في كذا إذا أسرع إليه، والسعي في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا سعى} معناه العمل يقال: سعى فلان أي عمل، ولو كان كما ذكرتم لقال: إلا ما سعى فيه نقول على الوجهين جميعاً: لابد من زيادة فإن قوله تعالى: {لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} ليس المراد منه أن له عين ما سعى، بل المراد على ما ذكرت ليس له إلا ثواب ما سعى، أو إلا أجر ما سعى، أو يقال: بأن المراد أن ما سعى محفوظ له مصون عن الإحباط فإذن له فعله يوم القيامة الوجه الثاني: أن المراد من الإنسان الكافر دون المؤمن وهو ضعيف، وقيل بأن قوله: {لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} كان في شرع من تقدم، ثم إن الله تعالى نسخه في شرع محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للإنسان ما سعى وما لم يسع وهو باطل إذ لا حاجة إلى هذا التكلف بعدما بان الحق، وعلى ما ذكر فقوله: {مَا سعى} مبقى على حقيقته معناه له عين ما سعى محفوظ عند الله تعالى ولا نقصان يدخله ثم يجزى به كما قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7].
المسألة الثانية: أن {مَا} خبرية أو مصدرية؟ نقول: كونها مصدرية أظهر بدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} أي سوف يرى المسعي، والمصدر للمفعول يجيء كثيراً يقال: هذا خلق الله أي مخلوقه.
المسألة الثالثة: المراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة أو بيان كل عمل، نقول: المشهور أنهما لكل عمل فالخير مثاب عليه والشر معاقب به والظاهر أنه لبيان الخيرات يدل عليه اللام في قوله تعالى: {للإنسان} فإن اللام لعود المنافع وعلى لعود المضار تقول: هذا له، وهذا عليه، ويشهد له ويشهد عليه في المنافع والمضار، وللقائل الأول أن يقول: بأن الأمرين إذا اجتمعا غلب الأفضل كجموع السلامة تذكر إذا اجتمعت الإناث مع الذكور، وأيضاً يدل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزاء الأوفى} [النجم: 41] والأوفى لا يكون إلا في مقابلة الحسنة، وأما في السيئة فالمثل أو دونه العفو بالكلية.
المسألة الرابعة: {إِلاَّ مَا سعى} بصيعة الماضي دون المستقبل لزياد الحث على السعي في العمل الصالح وتقريره هو أنه تعالى لو قال: ليس للإنسان إلا ما يسعى، تقول النفس إني أصلي غداً كذا ركعة وأتصدق بكذا درهماً، ثم يجعل مثبتاً في صحيفتي الآن لأنه أمر يسعى وله فيه ما يسعى فيه، فقال: ليس له إلا ما قد سعى وحصل وفرغ منه، وأما تسويلات الشيطان وعداته فلا اعتماد عليها.


{وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)}
أي يعرض عليه ويكشف له من أريته الشيء، وفيه بشارة للمؤمنين على ما ذكرنا، وذلك أن الله يريه أعماله الصالحة ليفرح بها، أو يكون يرى ملائكته وسائر خلقه ليفتخر العامل به على ما هو المشهور وهو مذكور لفرح المسلم ولحزن الكافر، فإن سعيه يرى للخلق، ويرى لنفسه ويحتمل أن يقال: هو من رأى يرى فيكون كقوله تعالى: {وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 105] وفيها وفي الآية التي بعدها مسائل:
الأولى: العمل كيف يرى بعد وجوده ومضيه؟ نقول فيه وجهان:
أحدهما: يراه على صورة جميلة إن كان العمل صالحاً ثانيهما: هو على مذهبنا غير بعيد فإن كل موجود يرى، والله قادر على إعادة كل معدوم فبعد الفعل يرى وفيه وجه ثالث: وهو أن ذلك مجاز عن الثواب يقال: سترى إحسانك عند الملك أي جزاءه عليه وهو بعيد لما قال بعده: {ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزاء الأوفى}.
المسألة الثانية: الهاء ضمير السعي أي ثم يجزى الإنسان سعيه بالجزاء، والجزاء يتعدى إلى مفعولين قال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان: 12] ويقال: جزاك الله خيراً، ويتعدى إلى ثلاثة مفاعيل بحرف يقال: جزاه الله على عمله الخير الجنة، ويحذف الجار ويوصل الفعل فيقال: جزاه الله عمله الخير الجنة، هذا وجه، وفيه وجه آخر وهو أن الضمير للجزاء، وتقديره ثم يجزى جزاء ويكون قوله: {الجزاء الأوفى} تفسيراً أو بدلاً مثل قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] فإن التقدير والذين ظلموا أسروا النجوى، الذين ظلموا، والجزاء الأوفى على ما ذكرنا يليق بالمؤمنين الصالحين لأنه جزاء الصالح، وإن قال تعالى: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا} [الإسراء: 63] وعلى ما قيل: يجاب أن الأوفى بالنظر إليه فإن جهنم ضررها أكثر بكثير مع نفع الآثام فهي في نفسها أوفى.
المسألة الثالثة: {ثُمَّ} لتراخي الجزاء أو لتراخي الكلام أي ثم نقول يجزاه فإن كان لتراخي الجزاء فكيف يؤخر الجزاء عن الصالح، وقد ثبت أن الظاهر أن المراد منه الصالح؟ نقول: الوجهان محتملان وجواب السؤال هو أن الوصف بالأوفى يدفع ما ذكرت لأن الله تعالى من أول زمان يموت الصالح يجزيه جزاء على خيره ويؤخر له الجزاء الأوفى، وهي الجنة أو نقول الأوفى إشارة إلى الزيادة فصار كقوله تعالى: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} [يونس: 26] وهي الجنة: {وَزِيَادَةٌ} وهي الرؤية فكأنه تعالى قال وأن سعيه سوف يرى ثم يرزق الرؤية، وهذا الوجه يليق بتفسير اللفظ فإن الأوفى مطلق غير مبين فلم يقل: أوفى من كذا، فينبغي أن يكون أوفى من كل واف ولا يتصف به غير رؤية الله تعالى.
المسألة الرابعة: في بيان لطائف في الآيات الأولى: قال في حق المسيء: {أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى} وهو لا يدل إلا على عدم الحمل عن الوازرة وهذا لا يلزم منه بقاء الوزر عليها من ضرورة اللفظ، لجواز أن يسقط عنها ويمحو الله ذلك الوزر فلا يبقى عليها ولا يتحمل عنها غيرها ولو قال: لا تزر وازرة إلا وزر نفسها كان من ضرورة الاستثناء أنها تزر، وقال في حق المحسن: ليس للإنسان إلا ما سعى، ولم يقل: ليس له ما لم يسع لأن العبارة الثانية ليس فيها أن له ما سعى، وفي العبارة الأولى أن له ما سعى، نظراً إلى الاستثناء، وقال: في حق المسيء بعبارة لا تقطع رجاءه، وفي حق المحسن بعبارة تقطع خوفه، كل ذلك إشارة إلى سبق الرحمة الغضب.


{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)}
القراءة المشهورة فتح الهمزة على العطف على ما، يعني أن هذا أيضاً في الصحف وهو الحق، وقرئ بالكسر على الاستئناف، وفيه مسائل:
الأولى: ما المراد من الآية؟ قلنا فيه وجهان:
أحدهما: وهو المشهور بيان المعاد أي للناس بين يدي الله وقوف، وعلى هذا فهو يتصل بما تقدم لأنه تعالى لما قال: {ثُمَّ يُجْزَاهُ} كأن قائلاً قال لا ترى الجزاء، ومتى يكون، فقال: إن المرجع إلى الله، وعند ذلك يجازى الشكور ويجزي الكفور وثانيهما: المراد التوحيد، وقد فسر الحكماء أكثر الآيات التي فيها الانتهاء والرجوع بما سنذكره غير أن في بعضها تفسيرهم غير ظاهر، وفي هذا الموضع ظاهر، فنقول: هو بيان وجود الله تعالى ووحدانيته، وذلك لأنك إذا نظرت إلى الموجودات الممكنة لا تجد لها بداً من موجد، ثم إن موجدها ربما يظن أنه ممكن آخر كالحرارة التي تكون على وجه يظن أنها من إشراق الشمس أو من النار فيقال الشمس والنار ممكنتان فمم وجودهما؟ فإن استندتا إلى ممكن آخر لم يجد العقل بداً من الانتهاء إلى غير ممكن فهو واجب الوجود فإليه ينتهي الأمر فالرب هو المنتهى، وهذا في هذا الموضع ظاهر معقول موافق للمنقول، فإن المروي عن أبي بن كعب أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «{وأن إلى ربك المنتهى} لا فكرة في الرب» أي انتهى الأمر إلى واجب الوجود، وهو الذي لا يكون وجوده بموجد ومنه كل وجود، وقال أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا ذكر الرب فانتهوا» وهو محتمل لما ذكرنا، وأما بعض الناس فيبالغ ويفسر كل آية فيها الرجعى والمنتهى وغيرهما بهذا التفسير حتى قيل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] بهذا المعنى وهذا دليل الوجود، وأما دليل الوحدانية فمن حيث إن العقل انتهى إلى واجب الوجود من حيث إنه واجب الوجود، لأنه لو لم يكن واجب الوجود لما كان منتهى بل يكون له موجد، فالمنتهى هو الواجب من حيث إنه واجب، وهذا المعنى واحد في الحقيقة والعقل، لأنه لابد من الانتهاء إلى هذا الواجب أو إلى ذلك الواجب فلا يثبت الواجب معنى غير أنه واجب فيبعد إذاً وجوبه، فلو كان واجبان في الوجود لكان كل واحد قبل المنتهى لأن المجموع قبله الواجب فهو المنتهى وهذان دليلان ذكرتهما على وجه الاختصار.
المسألة الثانية: قوله تعالى: {إلى رَبّكَ المنتهى} في المخاطب وجهان:
أحدهما: أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل ثانيهما: الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيه بيان صحة دينه فإن كل أحد كان يدعى رباً وإلهاً، لكنه صلى الله عليه وسلم لما قال: «ربي الذي هو أحد وصمد» يحتاج إليه كل ممكن فإذاً ربك هو المنتهى، وهو رب الأرباب ومسبب الأسباب، وعلى هذا القول الكاف أحسن موقعاً، أما على قولنا: إن الخطاب عام فهو تهديد بليغ للمسيء وحث شديد للمحسن، لأن قوله: أيها السامع كائناً من كان إلى ربك المنتهى يفيد الأمرين إفادة بالغة حد الكمال، وأما على قولنا: الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم فهو تسلية لقلبه كأنه يقول: لا تحزن فإن المنتهى إلى الله فيكون كقوله تعالى: {فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [ياس: 76] إلى أن قال تعالى في آخر السورة: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [ياس: 83] وأمثاله كثيرة في القرآن.
المسألة الثالثة: اللام على الوجه الأول للعهد لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: أبداً إن مرجعكم إلى الله فقال: {وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى} الموعود المذكور في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى الوجه الثاني للعموم أي إلى الرب كل منتهى وهو مبدأ، وعلى هذا الوجه نقول: منتهى الإدراكات المدركات، فإن الإنسان أولاً يدرك الأشياء الظاهرة ثم يمعن النظر فينتهي إلى الله فيقف عنده.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14